هل هناك علاقة بين الابداع من جهة ، والموهبة و التفوق من جهة اخرى؟
ما زال الخلط بين المفاهيم السابقة (الابداع ، الموهبة ، التفوق) وعدم وضوح العلاقة فيما بينها يشكل تحديا كبيرا للباحثين والتربويين والفلاسفة ، وسنحاول بعجالة التمييز بين هذه المفاهيم .
فالابداع في اللغة العربية مصدر الفعل الثلاثي بدع بمعنى اخترع او ابتكر على غير مثال سابق وقد ياتي بمعنى الخلق اي الصنع كقوله تعالى
فتبارك الله احسن الخالقين ) ،وكثير هم العلماء الذين عرّفوا الابداع من منظورهم الثقافي والعلمي والنفسي ، فمنهم من عرفه بالقدرة على إيجاد حلول اصيلة غير شائعة لمشكلة ما ، ومنهم من عرفه بانه تجنب الروتين العادي والطرق التقليدية في التفكير ، ومنهم من عرفه بانه تفكير متشعب يعمل على تجطيم الافكار القديمة وتقسيمها ، ثم عمل روابط جديدة بينها وادخال الافكار العجيبة والمدهشة وصولا الى انتاج فكري او مادي جديد غير مألوف .
اما الموهبة عند شخص ما فهي باختصار صفات معقدة تؤهله للإنجاز المرتفع في بعض المهارات، لوجود استعداد فطريا لديه بوجود بيئة ملائمة ، لذا فالموهبة تظهر في الغالب في مجالات محددة مثل الموسيقى أو الشعر أو الرسم .
فالشاب الذي يملك مهارة لفظية متقدمة او الذي يحفظ الابيات الشعرية المعقدة او المعلومات التاريخية المتعمقة هو شاب موهوب ، فمهارته في مجال ما وتميزه في هذا المجال يدل على موهبته وليس بالضرورة على ابداعه .
والسؤال الهام الان هو هل يمكن ان تتحول الموهبة الى ابداع ؟
عندما يقوم طفل في عمر 7 سنوات مثلا بعزف مقطوعة موسيقية معقدة وبإتقان لموسيقار عالمي كبتهوفن مثلا، فانه بدن أدنى شك طفل موهوب ، ولكن عندما يقوم طفل آخر وبنفس العمر بعزف مقطوعة موسيقية معقدة ولكنها ليس تقليدا لاحد ، بل هي من نتاج فكره واحساسه ،وعندما يجمع المتخصصوصون في مجال الموسيقى انها مقطوعة رائعة لم يسبقه أحد اليها ،عندها يمكن ان نقول عن هذا الطفل انه مبدع في هذا المجال بل شك ، والمقصود من كلامي هذا ان الابداع هو انتاج جديد غير مألوف .
اما عن علاقة الابداع بالتفوق الناتج عن التحصيل العلمي أو الدراسي المرتفع ، فلقد اشارت غالبية الدراسات البحثية الى وجود علاقة ارتباط ضعيفة بين الابداع والتفوق من هذا النوع ، بل ان بعض الدراسات قد اشارت إلى ان الكثير من العلماء كان مستواهم عاليا في الانتاج الابداعي في حين ان نتائجهم كانت منخفضة في التحصيل العلمي ، مما يدفعنا للقول ان التحصيل العلمي المرتفع ليس دليلا على وجود القدرة الابداعية لدى الطلبة ، ولكن بالطبع هذا لا يمنع من وجود قدرة ابداعية مرافقة لتحصيل دراسي مرتفع عند البعض ..
وهنا لا بد من الاشارة ان دولنا العربية تركز على التفوق الدراسي والذي في معظم الاحيان لا ينتج ابداعا ، لان الدراسة في مؤسساتنا العربية ملتزمة وتراكمية ونمطية وتركز في الكثير من الاحيان على اختبار قدرة الطالب على الحفظ والصم وقليل من الفهم ، ولا ترتقى الى مستويات تتجاوز المعرفة والفهم الى التطبيق والتحليل والبحث والابداع ، فمئات الالاف من طلاب الثانوية العامة في دولنا العربية يتخرجون وبمعدلات دراسية عالية جدا تكاد تكون مكتملة ، الا اننا عندما نبحث عن انتاجاتهم عند التخرج من الجامعة أو بعد ذلك ، نجد ان حجم الابتكارات او الانتاجات الابداعية لاوطانهم تكاد تكون معدومة مقارنة بدول صغيرة كهونغ كونغ أو كوريا الجنوبية مثلا .
قد يصبح هؤلاء الطلبة اطباء مهرة او مهندسين متميزين او تربويين ناجحين ولكن هذا لا يكفي فنحن بحاجة الى مبدعين مبتكرين منتجين للمعرفة وتطبيقاتها لا متلقين لها.
ان أكثر الاعمال الابداعية اختراقا لمعايير الحاضر ليست سوى امتداد لتراكمات المعرفة الانسانية عبر العصور الغابرة ، وليس هناك مكان في التاريخ الانساني لابداعات تاتي من فراغ ودون مقدمات .
لذا فأنا أؤمن بصناعة المبدع لان عمليلت التفكير الابداعي هي نفسها عمليات التفكير العادي ، وان مفهوم الاستمرارية في التفكير والتدرب عليه هو حجر الزاوية الذي يفسر الارتباط بين خبراتنا في الماضي وخبراتنا في الحاضر .
إن الانهماك فقط في المقررات والمناهج الدراسية على جودتها وتنوعها ، يشكل عائقا امام ابداعات ابنائنا ، وبدون ادنى شك ان المدرس المبدع في اساليبه وافكاره وتعامله مع طلابه يزرع بذرة الابداع بقصد او بدون قصد ، فلو ان كل عشرة مدرسين انتجوا مبدعا واحدا لتغير حال امتنا واصبحنا في أول الركب ....
د.خالد عرب
دكتوراة في الإبداع - قسم التربة الخاصة