الإعاقة الخفية: جهل الأهل والمدرسة .. واضطرابات النمو المعرفي! (3)
كان من النقاط المهمة جدا في المقالة الثانية من سلسلة المقالات هذه للتعريف بصعوبات التعلم عند الأطفال (والراشدين) ، الإشارة إلى أن تحليل نتائج الطفل ومقارنتها مع بعضها هو الطريق المناسب للوصول إلى تشخيص مناسب للصعوبات.
كما أشرت إلى أن اختبارات الذكاء لا تشخص بالضرورة صعوبات التعلم. إن الطفل يظهر قدرات عالية جدا في مجال وضعيفة جدا في قدرة محددة، أو كما عبر عنها بعض الباحثين: بحرا من نقاط القوة مع بقعة معرفية ضعيفة.
من فوائد التشخيص الدقيق وتحليل قدرات الطفل أنه سيجعلنا قادرين على أن نتنبأ بقدرات وأداء معين عند الطفل، فالطفل الذي لا يمكنه حل مشكلة حسابية بسيطة، نعرف أنه سيعاني جدا عند التسوق، وأنه لا يستطيع أن يتابع العملية التسويقية من حيث كم التكلفة، وكم يسترجع من البائع.
طبعا في هذا المثل أنا متعمد لأوضح للقراء الكرام أن صعوبات التعلم ( learning disabilities) ليست موضوعا مقتصرا على المدرسة، وإن كان مهما جدا، بل يشمل الحياة كلها. هذه الصعوبة تجعله يتجنب كل ما له علاقة بالحساب، ولا يفكر حسابيا رغم مهارات الذكاء والطلاقة اللفظية والمهارات الاجتماعية العالية ( فنقول إنه: رجال للولد أو امراة للطفلة تشجيعا منا لهم)! فإن السلوك التكيفي سيعاني لسنين حيث إن الأسباب تعود لنمو الجهاز العصبي، خصوصا إذا أهملنا الطفل ولم نلتفت لاحتياجاته التعليمية وصعوباته هذه.
لكن لا يخفى علينا أن صعوبات التعلم تبرز أكثر ضمن السياق الثقافي والاجتماعي والمهني. بمعنى أن البنت التي تعيش بالبادية، وأصبحت أما الآن، ولا تحتاج للقراءة ولا الكتابة حسب ثقافتها أو ظروفها، فإن صعوبات التعلم كالقراءة (على افتراض وجودها) لا تسبب مشكلة ولا إعاقة أبدا. لكن نفس الأم هذه بأميتها القرائية أو بصعوبات تعلم متعلقة بالحساب ستعاني جدا عند حضورها السوق للتسوق ولو مرة بالسنة، فإنها ستفتقد القدرة على حساب تكلفة البضاعة أو كم سيبقى عندها من المال مثلا.
بالمقابل سيتفق القراء الكرام معي بأن صعوبات التعلم- كما أشرت وهي منتشرة جدا بين الأطفال- وإن كانت غير واضحة أحيانا كثيرة، هذه الصعوبات ستسبب حرجا نفسيا كبيرا في عصرنا الحاضر. إن المدنية المعاصرة تحتم الحاجة للقراءة والكتابة والحساب بلا شك. وإخالكم تفكرون الآن بصعوبات تعلم تخص الأمية الإلكترونية كمثال على تعقد المدنية الحديثة ـ بلا قدرات كمبيوترية ستعاني الأمهات مثلا في مساعدة الأطفال حتى في حل الواجبات المدرسية اليوم.
مراحل الحياة:
من جهة أخرى لابد أن نشير إلى أن صعوبات التعلم تتمظهر بقوة في مرحلة ما أكثر من غيرها ، فتبدو واضحة جدا في الطفولة. بينما أقل في الكبر، وربما العكس. هذا فضلا عن طبيعة الحياة والمهنة والمسؤوليات الاجتماعية التي يحتاجها الفرد، فالطفل الذي يعاني من صعوبات تعلم معينة مرتبة بصلب حياته (المدرسة) كصعوبات القراءة والكتابة، فإنه سيعاني جدا حتى يكبر ويترك المدرسة، ولا يحتاج للأداء الأكاديمي الآن- كأن يعمل حارسا أو ميكانيكيا، فهو بذلك يتجنب القراءة ولا يقرأ أبدا ربما.
بينما الطفل الذي يعاني من صعوبات التعلم المتعلقة بالقدرات التنفيذية
( executive functions) -عدم القدرة على التخطيط أو تنفيذ خطة بسيطة أو ترتيب خطوات سلوكية معينة- فإن المشكلة ستبدا أكثر في مرحلة الكبر، فنرى الراشد حينا لا يستطيع حل مشكلات يومية بسيطة (رغم الذكاء مثلا) ، ويتخبط في مشاريع صغيرة، ولا يستطيع ترتيب سفرة بسيطة له وللأسرة.
حينها يتحجج الفرد بانشغاله أو أنه لا يحب السفر ومشاكله أو أن العمل غير مريح، فيغير وظيفته من فترة لأخرى..، وهكذا.
طبعا هذا النمط (بالإعاقة الخفية الموجودة) يسبب مشكلات نفسية وأسرية واقتصادية للفرد ولمن حوله.
إن وجود هذه الإعاقة الخفية- التي لا يعرف لها تفسير حسب الفرد أو الأسرة- يجعل الفرد أكثر عرضة للمشكلات السلوكية، وربما يلجأ للحل غير الصحي وغير التكيفي –غير المناسب. فقد يلجأ لتجنب إظهار طاقاته الذهنية القوية، وقد يتجنب العمل أو يلجأ للعمل الأقل من قدراته الذهنية لكيلا يواجه صعوبات تعطي انطباعا له أو عند الآخرين بأنه " غير ذكي"، وقد يتهمه الآخرون بأنه كسول أو غير مهتم أو أنه لا ينفع معه المساعدة ولا التعليم. بلغة أخرى يتهمه الآخرون بأنه "غبي"!، وهي صفة غير لائقة طبعا لأنه يعرف أنه عالي الذكاء (هذه الحالة تسبب لديه ما يسميه علم النفس التناقض المعرفي)، وهذه تسبب معاناة نفسية كبيرة عنده ، وربما حزنا واكتئابا وتمردا وفشلا في الحياة. وأكثر من هذا فإن الفرد قد يلجأ لإخماد هذا الحالة النفسية المؤلمة باللجوء للمخدرات والكحول أو غيرها.
لذا فإنه من البديهي جدا أن تشخيص الطفل مبكرا جدا، ومعالجة نقاط الضعف لديه ستحسن من نوعية الحياة (quality of life) لديه، ليس فقط نجاحه في المدرسة وحصوله على الشهادة الدراسية. بها سنقلل من رهبته للأنشطة الأكاديمية ومن كرهه للقراءة مثلا أو للمدرسة عموما وهروبه المتكرر من المدرسة أو الحصص التي تتعلق بالمادة التي يشعر معها بضعف كبير لا يطيقه.
المصدر - جريدة الوطن السعودية