ومن الرحمة بذوي الاحتياجات الخاصة مراعاة الشريعة لهم في كثيرٍ من
الأحكام التكليفية، والتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم؛ فعن زيد بن ثابت (رضي
الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: "لاَ يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ". قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلُّهَا عَلَيَّ لتدوينها، فقال:
يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت. وكان رجلاً أعمى، قال زيد بن
ثابت: فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على
فخذي، فثقلت عليَّ حتى خفت أن تَرُضَّ فخذي (أي تدقها من ثقل الوحي)، ثم
سُرِّي عنه، فأنزل الله عز وجل: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].
وقال تعالى - مخففًا عن ذوي الاحتياجات الخاصة -: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى
حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}
[الفتح: 17].
فرفع عنهم فريضة الجهاد في ساحة القتال، فلم يكلفهم بحمل سلاح أو الخروج
إلى نفير في سبيل الله، إلا إن كان تطوعًا. ومثال ذلك قصة عمرو بن الجموح
(رضي الله عنه) في معركة أُحد، فقد كان (رضوان الله عليه) رجلاً أعرجَ شديد
العرج، وكان له بنون أربعة، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
المشاهد، فلما كان يوم أُحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عز وجل قد
عذرك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن بَنيَّ يريدون أن
يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أَطَأَ بعرجتي
هذه في الجنة. فقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد عذرك
الله، فلا جهاد عليك"، ثم قال لبنيه: "ما عليكم أن لا تمنعوه؛ لعل الله أن
يرزقه الشهادة". فخرج مع الجيش، فقتل يوم أُحد.
بَيْدَ أن هذا التخفيف الذي يتمتع به المعاق في الشرع الإسلامي يتسم
بالتوازن والاعتدال، فخفَّف عن كل صاحب إعاقة قدر إعاقته، وكلفه قدر
استطاعته، يقول القرطبي:
"إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر،
وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي، وما يتعذر من الأفعال مع
وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه؛ كالصوم، وشروط الصلاة
وأركانها، والجهاد، ونحو ذلك".
ومثال ذلك الكفيف والمجنون، فالأول مكلف بجُلِّ التكاليف الشرعية باستثناء
بعض الواجبات والفرائض كالجهاد؛ أما الثاني فقد رفع عنه الشارع السمح كل
التكاليف، فعن عائشة (رضي الله عنها)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ
حَتَّى يَعْقِلَ".
فمهما أخطأ المجنون أو ارتكب من الجرائم، فلا حدَّ ولا حكم عليه؛ فعن ابن
عباس قال: أُتِي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر
أن ترجم، فمرَّ بها على علي بن أبي طالب (رضوان الله عليه)، فقال: ما شأن
هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم. فقال: ارجعوا
بها! ثم أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أَمَا علمت أن القلم قد رفع عن
ثلاثة؛ عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟!
قال: بلى. قال: فما بال هذه ترجم؟! قال: لا شيء. قال علي: فَأَرْسِلْهَا.
فَأَرْسَلَهَا، فجعل عمر يُكَبِّرُ.
هكذا كان المنهج النبوي في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، في وقتٍ لم
تعرف فيه الشعوب ولا الأنظمة حقًّا لهذه الفئة، فقرَّر الشرع الإسلامي
الرعاية الكاملة والشاملة لذوي الاحتياجات الخاصة، وجعلهم في سلم أولويات
المجتمع الإسلامي، وشرع العفو عن سفيههم وجاهلهم، وتكريم أصحاب البلاء
منهم، لا سيما من كانت له موهبة أو حرفة نافعة أو تجربة ناجحة، وحثَّ على
عيادتهم وزيارتهم، ورغَّب في الدعاء لهم، وحرَّم السخرية منهم، ورفع العزلة
والمقاطعة عنهم، ويسَّر عليهم في الأحكام، ورفع عنهم الحرج. فما أعظم
شريعة الإسلام.