دخل إلى الغرفة على كرسيه المتحرك بمساعدة أخيه الأكبر. بادرنا بابتسامة عريضة وهو غير قادر على التحكم بشكل كامل بعضلات رأسه المائل قليلاً إلى اليمين. انتظرت الضيفة بضع ثوان حتى يستطيع رفع يده وإجبار أصابعه المرتجفة أن تأخذ وضعيتها المناسبة، ثم ارخى كفه كاملاً في كف الضيفة وأطلق ضحكة طويلة معبراً عن سعادته لرؤيتها بعد سنوات من الغياب.
محمد شاهين طفل في الصف السابع، لديه شلل دماغي نتيجة ولادة مبكرة. أدى هذا إلى إعاقة حركية مع عدم انسجام في حركة الأطرف وصعوبة في النطق. من هواياته الفيس بوك والانترنت عموماً، وأصدر مؤخراً العدد الثاني من مجلة (النجم الطموح) التي صممها باستخدام برنامج (البور بوينت) وأغناها بمعلوماته التي اكتسبها من قراءة الكتب.
محمد شاهين ليس طفلاً خارقاً، بل هو كأي طفل آخر يمكن أن نلتقيه في كل مكان وزمان. هو مجرد طفل شاءت الأقدار أن تملك عائلته الوعي الكافي لعدم عزله عن أقرانه والمجتمع، والعزيمة الكافية لتجاوز كل الصعوبات المصطنعة التي وضعت أمامها والتي بدأت "بمشاكل في التشخيص" بحسب والدته السيدة هبة رعد، ولما تنته بعد "برفض مدير مدرسته الحالية بنقل إحد شعب الصف السابع إلى الطابق الأرضي في بادئ الأمر" كما صرح والده السيد خلدون.
وعن كيفية اكتسابها هذه المعرفة والوعي قالت السيدة هبة "لم نكن على دراية بحالته بعد الولادة، ولكن بقي ذلك هاجساً دائماً حتى شاهدت برنامجاً على محطة لبنانية تتحدث عن الشلل الدماغي، فراسلت الخبيرة وأرشدتني إلى الكتب التي علي قراءتها والتي وجدتها في مكتبة الأسد" ومن هنا بدأت رحلة الأسرة بين مراكز التأهيل التي "تقدم خدمات المعالجة الفيزيائية، إلا أنهم كانوا دائماً يقفون عند حد ويقولون أن تقديم المزيد ليس من ضمن إمكاناتهم" الأمر الذي جعل والدة محمد تتعلم كل التمارين لتطبقها هي بنفسها عليه. وعلقت مي أبو غزالة، المدربة في مجال التدخل المبكر والخبيرة في الإعاقة الذهنية، أن "الكثير من الأسر ليس لديها الوعي الكافي لتقديم المعالجة الفيزيائية في وقت مبكر، فتتطور الحالة الجسدية إلى ضمور عضلات الأطراف مما يسبب آلاماً شديدة عند تحريك الشخص، وسنجده مستلقياً على الدوام.". ومن أهم ما اكتسبته السيدة هبة من خبرات في هذه الفترة كان "عدم مقارنة محمد مع أخيه والآخرين، بل التركيز على قدراته ومقارنته مع نفسه"، إلى أن وصل إلى عمر الثلاث سنوات حيث أصبح همها "دمجه اجتماعياً مع أقرانه من الأطفال بغض النظر عن التحصيل الدراسي".
أول ما عانت منه والدة محمد في سبيل دمج طفلها اجتماعياً، كان رفض رياض الأطفال ضمه إلى صفوفها "حيث استمر البحث لعام كامل". وتردف قائلة "فوجئ الجميع أني أبحث عن مدرسة له، فهو على كرسي ولا يتكلم جيداً وبحاجة إلى مرافق. كنت أطلب دائماً أن أبقى معه في المدرسة لأنني لم أكن أريد حينها سوى الدمج الاجتماعي ليرى أناساً آخرين غير أسرته". وفي محاولة أخيرة قبل اليأس تخبرنا السيدة هبة أن "مديرة روضة مرج الزهور قبلت بتسجيل محمد لديها لمدة شهر على سبيل التجربة، طبعاً مع وجودي بجانبه لأستطيع الاعتناء به وخاصة أن لديه صعوبات في النطق". وتتابع "بقيت على هذه الحالة لمدة شهر أساعد معلمة الصف في بعض الأنشطة مثل السباحة والأشغال اليدوية. ثم وجدت أن المعلمة بدأت تتأقلم مع وضع ابني فطلبت منها تبادل الأدوار حيث أقوم أنا بالعناية بالأطفال الخمسة الآخرين وتعليمهم وهي تتفرغ له، لأنني كنت أريد أن يعتاد على عدم وجودي بجانبه دائماً. بعد أن رأت السيدة مها مديرة الروضة هذا التقدم، طلبت مني قبول وظيفة إدارية بما أني متواجدة في الروضة بطبيعة الحال". وعن تقبل الأهالي لوجود طفل ذو إعاقة بين أطفالهم قالت "قام بعضهم بسحب أطفالهم، وساعد وجودي في الروضة على تقبل البعض الآخر للأمر. وبعد مرور أكثر من عام بدأت الروضة تستقبل حالات إعاقة أخرى وشعرت أسرهم بالطمأنينة بسبب وجودي كوني والدة أحدهم". إلا أن أم عبد الله، سيدة في الخامسة والثلاثين من عمرها كانت تتسوق في الجسر الأبيض بدمشق ولديها طفلان في المرحلة الابتدائية، ترى الموضوع بشكل مختلف وقالت "لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن للمعلمة أن توفق بين الاحتاجيات الخاصة للمعاق وبين دورها في إفهام المادة إلى الطلاب، فهو سوف يشوش على المعلمة وعلى الطلاب الآخرين”. ولدى سؤال أم عبد الله "أليس الطلاب مختلفين بشكل طبيعي والإعاقة هي أحد أشكال الاختلاف؟ وبالتالي أليس دور المعلم/ة أخذ هذه الاختلافات بعين الاعتبار أثناء تحضير الدرس وإعطائه؟" أجابت "ربما هذا صحيح، ولكن هل يمكن لمعلمة في هذه الدنيا أن تأخذ اختلافات أربعين أو خمسين طالباً بعين الاعتبار؟". في المقابل تروي والدة محمد بكثير من الفرح والفخر حادثة مع والدة طفل من نفس الروضة فقد "جاءت الأم تشكرنا، لأنها كانت ذات مرة في مطعم مع طفلها الذي كان في قسم الألعاب وتصادف حينها وجود طفل لديه إعاقة، وكان رد فعلها في البداية أنها شعرت بنوع من الخوف وابتعتد عنه، إلا أن ابنها اقترب من ذلك الطفل بشكل طبيعي وتابع اللعب".
تقول مي أبو غزالة "لو لم تعمل أسرة محمد على تأهيله ودمجه بالشكل المطلوب لبقيت قدراته العقلية متأخرة بشكل كبير عن أقرانه". لذلك مازال محمد شاهين يتابع تحصيله العلمي ويستمتع بهواياته. يفخر أنه بات لديه 19 صديقاً على الفيس بوك خلال أربعة أشهر. وربما يأتي يوم نشتري فيه نسخة مطبوعة من مجلة (النجم الطموح) التي كان محمد يتحدث عنها بشغف وحب يشابه إلى حد بعيد طريقة